Quotes By Author: علي مبروك
“فرغم الوعي، من جهة، بضرورة وجدوى ما قام به الخليفة الثالث “عثمان بن عفان” من تقنين المصحف، فإنه يبقى لزوم الإشارة إلى ما صاحب هذا العمل مما يُقال أنه الإنتقال من القرآن “الناطق” إلى القرآن “الصامت”، وبما ينطوى عليه هذا الإنتقال من إهدار ثرائه وحيويته. ومن جهة أخري، فإن ما قام به الأمويون، إبان صراعهم السياسى مع الإمام على بن أبى طالب، من رفع المصاحف على أسنّه الرماح والسيوف كان الواقعة الكاشفة عن إرادتهم فى تثبيت القرآن كسلطة حارسة لسلطانهم، وذلك بعد أن تبدى لهم جلياً أن فاعليته فى إنقاذ هذا السلطان تفوق فاعلية السيف بكثير. وغنيٌّ عن البيان أن هذا التمييز بين قرآن النبى الحى وبين القرآن المنحبس وراء التقييدات التى تفرضها السلطة، إنما يعكس ما يكاد يكون تقابلاً يعرفه دارسو الأديان على العموم بين “دين التقليد” الذى تحرسه مؤسسات السلطة لتسوس به الناس، وبين “الدين الحي” الذى يقصد إلى إذكاء الوعى وتحرير الإرادة. وإذ تحرس المؤسسة دين التقليد، لأنه يكون حارساً لها بدوره، فإن سعياً إلى تحرير الدين من سطوة التقليد، واستعادته فى انفتاحه وحيويته الأولي، سوف يعرى تلك المؤسسة مما تستر به عورتها. ومن هنا أن انتقام المؤسسة من هؤلاء الساعين إلى استعادة الدين الحى يكون قاسياً حقاً، لأن ذلك يكون بمثابة تعرية لها من غطائها الإيديولوجي”
“فقد أدرك الرجل (يقصد نصر حامد أبو زيد رحمة الله عليه) أن القرآن قد حُوصر بشبكة من المفاهيم والتصورات التى وجَّهت عمليات فهمه وقولبتها، ووضعت لها حدوداً وآفاقاً لا تخرج عنها، واكتسبت على مدى القرون – ورغم مصدرها البشري – قداسة توازى تلك التى للقرآن ذى المصدر الإلهي. ولسوء الحظ، فإن هذا الحصار قد أضرَّ بالقرآن وبالمسلمين فى آنٍ معاً. فقد أعجز القرآن عن أن يكون مصدراً للإلهام فى عالم متغير، وأجبر المسلمين، إبتداءً من اضطرارهم للانحباس ضمن تحديدات هذه المفاهيم الراسخة، على التعيُّش عالة على غيرهم من صُنَّاع العصر والفاعلين فيه. ومن هنا ما بدا من ضرورة الانعتاق من أسر تلك التحديدات، واستعادة القرآن الحى السابق عليها، والذى كان – وللمفارقة – قرآن النبى وصحابته الأكرمين.”
“وبالطبع فإنه يبقى وجوب الانتباه إلى ما يؤشر عليه هذا المسعى الانعتاقى من التمييز بين “القرآن” الذى صار موضوعاً لتقليدٍ جامد تقوم عليه مؤسسة حارسة ترعاه وتحفظه، وبين القرآن المنفتح الحى السابق على رسوخ هذا التقليد، والذى تزخر المصادر القديمة بما يرسم صورة متكاملة له مما يتواتر منسوباً إلى النبى الكريم والجيل الأول من الذين تلقَّوا وحيه الخاتم. وهنا يلزم التأكيد على أن الأمر لايتعلق بأى تحول ٍ فى طبيعة القرآن ذاته، بقدر ما يتعلق بتحولٍ فى نوع العلاقة معه، وأعنى من علاقة مع القرآن كان فيها ساحة يتواصل فوقها الناس بما تسمح به مقتضيات الواقع والأفهام، إلى علاقة بات يجرى معها فرضه كسلطةً إخضاع بالأساس.”
“هناك علاقة طردية بين تصور بعينه للدين وبين حجم القوة التي يوفرها للقائمين علي توظيفه سياسياً؛ وأعني أنه كلما كان الدين حرفياً وقطعياً يكون مقدار القوة التي يقدمها لهؤلاء الساعين إلي التخفي وراءه أكبر- بما لا يقاس- من تلك التي يوفرها لهم حين يكون موضوعاً لتفكير مفتوح. ويرتبط ذلك بحقيقة أن قطعية الدين وحرفيته تكون هي الأكثر مثالية في إخضاع الجمهور وقهره؛ وأعني من حيث لا يكون متاحاً له، في إطارها، إلا محض التسليم والامتثال من دون جدل أو سؤال. وإذ يقوم دعاة الإسلام السياسي بتثبيت هذا التصور القطعي للدين علي أحد المفاهيم الشائعة المستقرة في وعي الجمهور؛ وهو مفهوم القطعي الثبوت والدلالة، فإنه يلزم التنويه بما يقوم عليه هذا المفهوم من مراوغة تسوية قطعية الثبوت مع قطعية الدلالة، وذلك فيما ينتمي الثبوت إلي مجال التاريخ الذي يغاير بالكلية مجال المعني الذي تنتمي إليه الدلالة. وبالطبع فإنه لا يمكن التسوية أبداً بين ما ينتمي إلي مجال الثبوت التاريخي، وبين ما ينتمي إلي مجال المعني الدلالي؛ وبمعني أنه في حين أن أحدا لا يجادل في يقينية ثبوت القرآن؛ وبما يعنيه ذلك من إمكان- بل وجوب- التأكيد علي قطعية ثبوته، فإنه لا يمكن القول بقطعية دلالته ومعناه، لأن ذلك يعني وجوب القول بأحادية الدلالة والمعني؛ وهو ما لا يمكن لمسلم أن يقبله بخصوص القرآن.”